كانت حقائق مدهشة وغير متوقعة، تلك التي عرضها علينا أحد خبراء
المعلوماتية المعروفين، في محاضرة نفيسة قيمة، أما الخبير فهو الأستاذ عبد
القادر الكاملي، رئيس مؤسسة مدار لأبحاث الاقتصاد الرقمي، وأما الحقائق
المدهشة، فتتعلق بمحركات البحث الشبكية، أين وصلت وماذا حققت وإلى أين
تسير، وهل بلغت الغاية وأقصى المدى أم أن أمامها طريق طويل وأهداف
وإنجازات، وكيف تتعامل معها الأمم الأخرى غير العربية، وأين مكانها في وعي
أبناء لغة الضاد؟ وقد كانت كل هذه الأسئلة وإجاباتها مدخلاً لاستنتاج
حقيقة في غاية الأهمية، وهي الضرورة القصوى والحاجة الماسة إلى بناء محرك
بحث عربي جديد.
وأول ما أدهشنا هو بداية المحاضرة، إذ كانت باقتباس منقول من
أقوال نائبة الرئيس في شركة غوغل، واسمها (ماريسا ماير)، جاء فيه:
"المرحلة التي يمر بها علم البحث اليوم تشبه المرحلة التي مرت بها علوم
الأحياء والفيزياء في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فربما تمر مئات
السنين أو أكثر قبل أن نتمكن من اختراع المجهر الخاص بعلم البحث، واكتشاف
جزيئات وذرات مادة البحث، إن التقدم الكبير لهذا العلم لم يأت بعد".
لولا أن هذا الكلام صدر عن أهل الاختصاص، بل عن أكثرهم تبحراً في هذا
العلم، لقلنا إن فيه مبالغة، لأن الظن الغالب أن علم البحث قد بلغ الغاية،
وأن القطار قد فات على من يريد إنشاء محرك بحث جديد، وأن علينا أن نسلم
القيادة لمحرك غوغل وأمثاله، فقد كفونا العمل في هذا المجال، فلنتركه لهم
يبرمجوا وينفذوا وينتجوا، ونستخدم نحن ما ينتجونه مجاناً، وكفى الله
المؤمنين القتال، فلماذا نتعب أنفسنا في العمل إن كان لدينا من يقوم بذلك
عنا؟
الجواب على هذا أننا لو تركناهم ليبرمجوا وينفذوا وينتجوا، فنحن أيضاً
نتركهم ليسيطروا ويسودوا ويبتكروا ويبدعوا، وفوق كل هذا ليربحوا أرباحا
طائلةً، ونبقى نحن في مقعد المتفرجين نصفق لهم، ونجلد ذاتنا، ونتغنى
بماضينا، بل نتحسر عليه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن محركات البحث العالمية تم بناؤها انطلاقاً
من احتياجات لغات أخرى، أما اللغة العربية فلها خصائص تتطلب بناء فهارس
تناسبها منذ البداية، وهذا سيحسن نتائج البحث بشكل كبير، ويحتاج شرح ذلك
تقنياً ولغوياً إلى تفاصيل كثيرة ليس مكانها هذا المقال.
أما محركات البحث العربية القليلة التي أنشأتها شركات عربية أصيلة، فهي
تتسم بالضعف الشديد، إذ لايتجاوز فهرس أكبرها خُمْس حجم فهارس غوغل
العربية، ناهيك عن نقاط الضعف الأخرى فيها والتي يكفينا دليلاً عليها أنها
لا زالت بعيدة جداً عن منافسة المحركات الأجنبية، وهي بالتالي بعيدة عن
تحقيق طموح المستخدم العربي.
تقول مصادر غوغل بأنها صادفت تريليون صفحة على الشبكة العالمية أثناء بناء
فهارسها، ولكنها لم تصرح ماذا فهرست منها، غير أن التقديرات تفيد بأن ما
تمت فهرسته من قبل محركات البحث هو سبعون مليار صفحة، منها سبعمائة مليون
صفحة محتوى عربي، أي حوالي واحد بالمائة من الصفحات المفهرسة، علماً بأن
المحتوى العربي شهد نموا ملحوظاً في السنوات الأخيرة، حيث بلغت نسبة
زيادته نحو 100% عام 2009.
إن تطوير محركات بحث عربية جديدة، بأيد عربية، تنطلق من خصائص اللغة
العربية، وتفهرس المحتوى العربي على مخدمات عربية، هو أمر حيوي في غاية
الأهمية من ثلاثة وجوه: باب فكري سيادي، وباب علمي إبداعي، وباب اقتصادي
مالي.
أما من الناحية الفكرية والسيادية، فإن المحتوى العربي على الشبكة من
المفترض أنه نتاج الفكر العربي، لأنه يضم المناهج الدراسية والمواد
الحكومية الرسمية، والأخبار والتحليلات بمختلف أنواعها السياسية والثقافية
والأدبية والفنية، مع تحليلاتها وغير ذلك من المحتوى التراثي والديني
والعلمي، وهذا المحتوى كله موجود بفهارسه على مخدمات محركات البحث
الأجنبية، والتي تضم أيضاً قواعد بيانات شاملة بالكلمات والموضوعات التي
يبحث عنها المستخدم العربي، أي باهتمامات الإنسان العربي، وهي بالتالي
الموقع الأفضل لتحليل اللغة العربية والشخصية العربية، ووجود معلومات أمة
ما على مخدماتها أمر انتبهت له أمم غيرنا، منها مثلاً تركيا، التي قررت أن
تمنح كل مواطن تركي وكل مولود جديد يوم ولادته بريداً إلكترونيا مجانياً
على مخدمات تركية، وذلك لتكون المعلومات التي يتبادلها الأتراك فيما بينهم
وخاصة مع الجهات الحكومية على مخدمات تركية لا على مخدمات أجنبية تهدد
الأمن القومي.
وأما من الناحية العلمية والإبدعية، فقد أشار الأستاذ الكاملي في محاضرته
إلى أن تجميع نتاج العقل العربي، والاهتمامات العربية، في قواعد بيانات
تحت السيطرة العربية، يسمح بإجراء عدد كبير من الأبحاث سواء على الصعيد
اللغوي أو الاجتماعي أو العلمي، وخاصة أبحاث الذكاء الاصطناعي، مما يساهم
في تطوير خبرات الشباب العربي وإتاحة الفرصة أمامهم لتسجيل براءات اختراع
جديدة، وهذا كله سيؤدي إلى قفزات نوعية في الحياة التقنية العربية، لأن
محركات البحث هي مخ الشبكة، والشبكة هي عصب الحياة الحديثة.
ويضرب الأستاذ الكاملي مثالاً على ذلك ببرنامج الترجمة الذي طورته غوغل من
العربية إلى الإنكليزية وبالعكس، فأساس هذا البرنامج المنهجية الإحصائية
التي تتطلب توفر كميات كبيرة من النصوص باللغتين، وقد تفوقت بذلك على
الشركات العربية التي سبق وأنفقت ملايين الدولارات على برامج الترجمة
الآلية، وإذا بغوغل تسبقها وتتفوق عليها.
وأما من الناحية الاقتصادية والمالية، فإن محركات البحث الناجحة هي مشاريع
اقتصادية ناجحة، ولا يخفى على أحد الأرباح الطائلة التي تحققها محركات
البحث، ولاسيما صديقنا غوغل، وبلغة الأرقام فإن حصة محركات البحث من حجم
الإعلان على الشبكة بلغت 27 مليار دولار عام 2008 على مستوى العالم، أما
في العالم العربي فتشير الدراسات إلى أن حجم الإنفاق على الإعلانات على
الشبكة في ازدياد مستمر سيبلغ خلال عشر سنوات مليار دولار، نصفها سيكون
من نصيب محركات البحث، فهنيئاً لمن سيكون سباقاً إلى إنشاء محرك بحث عربي
جديد فيحصد من هذه الأرباح المتوقعة.
رغم كل ما سبق, قد يقول البعض: هل حقاً يمكن لمحرك بحث عربي، أن يناطح
غوغل وأمثاله من المحركات، التي تقوم وراءها طاقات هائلة، ودول كبرى،
وتقنيات متطورة؟ ونقول رداً على ذلك، وماذا ينقصنا لنقوم بذلك، وقد قام به
غيرنا فتفوقوا على غوغل وحصدوا حصة الأسد من نصيبه في بلادهم؟ أما بلغكم
أن محرك البحث المحلي الذي أنشأته كوريا الجنوبية حصته من سوق البحث فيها
77% مقابل 20% فقط هي حصة غوغل؟ وأن عائداته السنوية هي 660 مليون دولار؟
وأن قيمته السوقية لو فكر أصحابه في بيعه هي ثمانية مليارات دولار؟ هذا
مثال واحد فقط من أمثلة عديدة، منها روسيا والصين وجمهورية التشيك وغيرها
كثير من الدول طورت محركات بحث لغاتها المحلية بأيدي أبنائها فتفوقت بشدة
على المحركات المبنية أصلا على غير لغاتها، فأهل مكة أدرى بشعابها.
ومن المؤكد أنه لا تنقصنا الخبرات التقنية، ولا المهارات البرمجية، ولا
الإمكانيات المادية لتتفيذ مثل هذا المشروع، ولكن الذي ينقصنا هو جهة
تجتمع لديها النظرة الثاقبة، مع الحرص على تطور الأمة، وعلى لغتها وفكرها
وسيادتها التقنية والشبكية، بالإضافة إلى السيولة المالية مقرونة، بالصبر
الجميل والنفس الطويل، لأن ربح مشروع كهذا لا يكون بسرعة الربح في
استثمارات العقارات والأسهم.
ختم الأستاذ عبد القادر الكاملي محاضرته بقول الرئيس التنفيذي لشركة غوغل
"إريك شميدت": الأذكياء في العالم العربي سيذهبون إلى الشبكة العالمية
ويصنعون أسواقاً جديدة"، غير أن الكاملي أضاف قائلاً: "الأذكياء في العالم
العربي سيذهبون إلى الشبكة العالمية ويصنعون محرك بحث عربي أصيل ومبتكر"